الساحر سعد

سعد و حمد ابناء قرية واحدة أسمها المسمارة ، تجمعهم حارة واحدة ومدرسة واحدة ، منذ نعومة أظافرهم وهم يتنافسون ، وكانت الغلبة دائماً لسعد ، حتى أعتقد أهل القرية أنه يتعامل بالسحر وأصبح يُعرف بينهم بسعد الساحر. كانت هناك قرية أخرى أسمها المفتاحة تبعد عن المسمارة كيلومترات بسيطة باتجاه الجنوب ، ولكنها تسبقهم زمنياً بسنة شمسية كاملة ، لذا  كان كل مايحدث في المسمارة يعرفه أهل المفتاحة قبلهم بسنة.

كان لسعد صديق أسمه ماهر يقطن قرية المفتاحة ، وكان سعد يتواصل معه بين الحين والآخر ليزوده بالأخبار التي ستحدث في قرية المسمارة خلال سنة كاملة ، وكان ماهر يأخذ مقابل من سعد على كل خبر يزوده به. حمد بالمقابل كان لا يعير أي إهتمام لقرية المفتاحة ، جهلاً أو تجاهلاً ، وكان جل إهتمامه في أعماله الخاصة دون الإستعانة أو الرجوع للمؤثرات الأخرى التي ربما تساعده ، وكان يراهن دائماً على إجتهاده و عمله الشاق الإرتجالي ، وكان يعتقد أن سعد إما ساحر أو محظوظ ، ويُمني نفسه بأن يأتي اليوم الذي يكون حظه كحظ سعد.


في إحدى السنوات أخبر ماهر سعد بأن هناك وباء سينتشر في قرية المسمارة بعد خمسة شهور وأوصاه بأن يبيع كل مالديه من الماشية ، وبالفعل باع ماشيته في جو من الغرابة والإستهجان من سكان القرية ، والذين كانوا يرون أن هذا قرار أرعن سيندم عليه سعد لاحقاً. قبض سعد مبلغ كبير من المال مقابل ماشيته التي باعها ، وأشار ماهر إلى سعد بأن يصرف ذلك المبلغ في شراء قطعة أرض شمال قرية المسمارة بعد أن أخبره بأن الحكومة ستعمل طريق يخترق تلك المنطقة وسيتم تعويض كل من يملك قطعة أرض فيها ، وبالفعل إشترى سعد قطعة أرض في شمال المسمارة ، وأهل القرية يتمالكهم العجب كيف لقروي بسيط أن يعيش بعد أن ضيع ماشيته ومصدر رزقة بكومة تراب!. 
بعد خمسة شهور حل وباء عظيم على الماشية قضى على كل ماشية القرية بما فيهم مواشي حمد ، وبعدها بشهرين قامت الحكومة بشراء جميع الأراضي شمال قرية المسمارة بما فيها أرض سعد الساحر ، وتم تعويضه بمبلغ كبير. بعد ذلك أشار ماهر بأن الحكومة ستفتتح جامعة في قرية المسمارة ، وأشار على سعد بأن يصرف المبالغ التي يملكها في بناء شقق ومجمعات سكنية ، فبدأ سعد بذلك ، وكان أهل القرية وعلى رأسهم حمد يرون بأنها بداية النهاية للساحر سعد ومغامراته ، وأنه خاسر لامحالة فكيف له أن يستفيد من كل هذه الشقق في قرية لايتجاوز عدد سكانها الألف نسمه وكل منهم يملك سكنه الخاص ، ولكن بعد مايقارب ستة شهور تم الإعلان عن إفتتاح جامعة في قرية المسمارة ، وتم إستئجار كل شقق سعد في ظرف شهر واحد.
لم يكن سعد ليحقق تلك الأموال الطائلة لولا أنه كان يستقرأ المستقبل من خلال صديقه ماهر مقابل مبالغ زهيدة ، ويتخذ قراراته بناءً على المعلومات التي يحصل عليها من ماهر. تلك هي البيانات الضخمة (Big Data) وذلك تحليلها والإستثمار فيها ، من نافذة البيانات الضخمة نستطيع أن نقرأ المستقبل (Predicative Analytics) ونتخذ قراراتنا بناءً على تلك القراءات ، القرار الذي سنتخذه بعد سنة سيكون مختلف عما نتخذه اليوم ، سيكون أكثر حكمة ودراية وذلك لإكتسابنا معلومات و معارف خلال سنة جعلتنا نتصرف بشكل أفضل ،  هكذا هي التقنية جعلت من مشاركة خبرات الآخرين والإستفادة منها ممكنة من خلال أدوات جمع البيانات وتحليلها ، لا نحتاج لدفع سنة من عمرنا لنتعلم ، هناك من يعيشون ظروف مختلفة ، يمرون بتجارب متنوعة ربما لانعرفها ولم تصادفنا ، أصبحت اليوم في متناول أيدينا ، نحتاج فقط أن نعير لها إهتمامنا ، نجمعها ، نتعرف عليها ، نتعلم منها ، نجعلها مصدر لقوتنا ، حتى لا نعيد تجارب و أخطاء الآخرين على حساب عمرنا ، و أقسى الدروس ، تلك الدروس التي يكون ثمنها عمــر!
أدرك حمد حقيقة سعد وعرف سبب تفوقه ، و في يوم إفتتاح الجامعة ، صعد حمد على المنبر ونادى بأعلى صوته: " يا أهل المسمارة لم يكن سعد ساحراً ولكننا غافلون .. لو كنا نعلم الغيب لاستكثرنا من الخير وما مسنا السوء".  

Comments

  1. Very wonderful; your creativity is the magic

    ReplyDelete
  2. شكرا جزيلا. دائما تبسيطك للأفكار يشد انتباهي

    ReplyDelete
  3. دائم الإبداع يا دكتور حمود.

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

البيانات الضخمة والتسويق الذكي

البيانات .. هل هي النفط الجديد؟

في عصر البيانات الضخمة .. هل نحن في خطر؟