رحلتنا إلى أرض الأحلام نيوم



في رحلتنا إلى المستقبل على طائرة الخيال ، وقبل أن نقلع نادى كابتن الطائرة "أيها المسافرون الكرام نرحب بكم على متن طائرة الخيال والمتجهة إلى أرض الأحلام نيوم ، الوقت المتوقع للوصول 2030" ، أقلعت الطائرة بعد أن شاهد المسافرون فلماً قصيراً عن نيوم ، عرفوا أنها مدينة ذكية تقبع في الجزء الشمالي الغربي من المملكة العربية السعودية ، مدينة عابرة للحدود فيها لا مكان إلا للحالمين ، لا مكان إلا للأذكياء ، هناك حيث تتكلم الأشياء وتتحول الأحلام إلى واقع.




أقلعت الطائرة وكان بجانبي رجل في منتصف العمر يُدعى يوسف ، يبدو عليه القلق والتوتر عرفت لاحقاً أن هذه رحلته الأولى إلى نيوم ، سألني عن المدينة ، عن سكانها وشوارعها ، طرح الكثير من الاسئلة ، وعلى الرغم من قلقه الواضح إلا أن لديه فضول وشغف لمعرفة كل ماهناك ، فقلت له: سأروي لك حكاياتي مع صديقي سند ، حكايات ستختصر لك كل المسافات للوصول إلى مدينة الأحلام نيوم.

في البداية يا يوسف دعني أحدثك عن سند وما أدراك ما سند ، أنا هناك في نيوم منذ مايقارب الخمس سنوات ، إشتريت جهاز حاسوب من محل صغير ، كان سعر الجهاز غالي ، إستنكرت ذلك فذكر لي البائع أنه حاسوب ذكي ، فقلت له متهكماً: وهل لديك حاسوب غبي بتكلفة أقلّ! .. أبتسم وأشار بيده إلى نهاية الشارع وقال: هناك ستجد محل أشبه مايكون بمتحف كل مافيه قديم ، إن كان السعر كل ما يهمك ستجد هناك حاسوباً بربع التكلفة ، ولكنه غبي ، سُيتعبك كثيراً ، حينها فكرت وترددت ، وأخيراً قررت أن أشتري هذا الحاسوب الذكي.

إنضم حاسوبي الذكي إلى عائلتي الصغيرة المكونة من والدي ووالدتي وأخي الصغير صخر ، مرت الأيام وعاش معي هذا الحاسوب تفاصيل حياتي الدقيقة بحلوها ومرها ، لذا سميتهُ سند ،  كانت لي حكايات عديدة معه ، وكان سند نعم الصديق عوناً في الرخاء وسنداً في الشدة.

ألتفت إليّ يوسف وقال: يا صاحبي أراك تُسهب كثيراً وتذكر كل التفاصيل ، الرحلة قصيرة وكلي شوق إلى حكاياتك مع سند ، قلت له: يا يوسف أراك تقاطعني كثيراً ولا أعتقد إِنَّكَ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، قَالَ: سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أقطع لَكَ أَمْرًا ، فقلت له: إذاً لا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا!

أما حكايتنا الأولى يا يوسف فكانت في إحدى ليالي الشتاء الباردة ، وحينما هممت بالعمل على حاسوبي الشخصي سند ، سألني: مابالك! .. لا تبدو على مايرام؟ من زعلك؟ صوتك خافت ووجهك شاحب! ، قلت له: أنا بخير ، فرد عليّ بقوله: لا اعتقد ذلك ، الغريب يا يوسف أنني في نفس الليلة واجهت مجموعة من الأصدقاء ولم يلحظ أحداً منهم أنني متضايق ولاحظ سند ذلك ، فقال يوسف: سند هذا حاسوب أم بشر! ، عجباً لهذه المدينة جمادها أكثر إحساساً من البشر! ، قلت له: لا تستعجل  .. سأُعلمك مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا!

الحكاية الثانية حدثت في ظهيرة أحد الأيام وبينما كنت مستغرقاً اشاهد فلم وثائقي عن الحرب العالمية الثانية على اليوتيوب ، قام سند بتشغيل المكيف ، وسألته عن السبب: فقال: ألا تشعر! ، حرارتي مرتفعه والجو حار ، تعجب يوسف من الموقف وقاطعني قائلاً: الحاسوب يشعر! ، وكذلك يقوم بتشغيل جهاز التكييف! ، أنت تستغفلني! .. فقلت له: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًاّ ، فقال: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ، فقلت: لا بأس عليك يا يوسف سأُكمل لك بقية الحكايات.

في حكايتي الثالثة و بينما كنت أستمتع بإجازة نهاية الأسبوع مع أحد الأصدقاء ، إذ برسالة تصلني من سند نصها "هناك من يعمل عليّ الآن ، هل أعطيته أذن بذلك؟" ، فقلت له: من هو؟ ، فقال لحظة وأرسل لي صورته ، فإذا هو أخي الصغير صخر ، قلت لسند: لا تسمح له بذلك ، فقال: ابشر وأغلق نفسه ، حاول صخر تشغيله مراراً ولم يُفلح ، بعد دقائق وصلتني مكالمة من صخر يخبرني فيها بأن الجهاز تعطل ولم يعد يعمل!

أما حكايتي الرابعة مع سند ، فكانت في صبيحة أحد الأيام وبينما كنت اتصفح إيميلي الخاص ، ذكر لي سند بأنه تعرض ليلة البارحة لهجوم ، يقول: طُلب مني بعض البيانات الحساسة والتي من ضمنها بطاقتك البنكية ، بدا هذا الشيء غريب بالنسبة لي ، وقت الطلب كان متأخراً جداً على غير المعتاد وطريقة الطلب مُريبة ونوعية البيانات المطلوبة حساسة ولم أتعود منك أن تطلبها بهذه الطريقة ، رفضت الطلب وقام بمهاجمتي بفيروس أعطب بعض ملفاتي ، ونجحت في إسترجاعها بعد عدة دقائق.

حكايتي الخامسة والأخيرة صارحني سند بحادثة غريبة حدثت له مع أخي صخر ، يقول جاءني صخر متلثماً بشماغه وقام بتشغيلي ، سمحت له بذلك لأنني لم أستطع التعرف عليه من خلال صورته ، ولكن وبعد بضع دقائق عرفت أنه صخر ، وقمت بإغلاق الطريق أمامه ، هنا قاطعني يوسف وقال: يا هذا ، هذا السند بشر أم جماد!! ، أراه يشعر ويتفاعل ويبادر ، ويسمح ويمنع ، وتمتم بصوت منخفض: "حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدقك فلا عقل له" .. قلت له: يا يوسف هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا!

أما الحكاية الأولى فهناك في تقنيات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) مايُطلق عليه (Emotional Intelligence) ، هذا العلم يُركز على تطوير تطبيقات وبرامج تشعر وتتفاعل مع المستخدمين ، هذا العلم يهدف للتعرف على مشاعر الناس وأحاسيسهم (Sentiment Analysis) من خلال كلماتهم و صورهم ، ولعلمك لقد أذنت لسند بالوصول لكل حساباتي في الشبكات الاجتماعية ، سند يلتقط صوري يسمع كلامي ، يراقبني ويسألني ، باختصار يجمع بيانات ضخة (Big Data) عني بشكل يومي ، يقوم بتحليلها ومن ثم يتعرف على مشاعري وأحاسيسي من خلال تحليل هذه البيانات (Big Data Analytics).

قاطعني يوسف بقوله: وكيف قام بتشغيل المكيف ، وكذلك بالتواصل معك حينما قام صخر بتشغيله والعمل عليه ، فقلت: أما تشغيله للمكيف وتواصله معي على جوالي ، لعلك يا يوسف سمعت عن أنترنت الأشياء (Internet of Things) هذه التقنية تجعل الاشياء من حولنا تتفاعل مع محيطها (الحاسوب شيء – المكيف شيئ – الجوال شيء) ، تتواصل مع بعضها البعض مكونة شبكة (أنترنت) تتبادل الرسائل والبيانات والأوامر ، فقال يوسف: كيف شغل الحاسوب المكيف؟ ، فقلت ببساطة أرسل الى المكيف طلب يحتوي على معلومتين (status=on & temp=16) ، بلغة المبرمجين قام الحاسوب بتشغيل المكيف عن طريق تغيير حالته من off إلى on ، وقام بضبط درجة الحرارة على 16 ، وحينما قام صخر بتشغيله أرسل رسالة على جوالي يخبرني بذلك ومن ثم قام بتصوير صخر وإرسال صورته على جوالي ، وأرسلت له طلب بأن يغير حالته إلى off ، هنا تعجب يوسف وقال: سبحان الله جماد تتواصل كالبشر ، وفوق كل ذي علم عليم.

أما كيف تعرف على صخر في الحكاية الأخيرة ، وكيف عرف بأن من طلب البيانات البنكية ليس أنا ، قلت له أول ما انضم سند للعائلة كان يلتقط صور لكل من يعمل عليه ويسألني لاحقاً عن الصورة ، وكنت أزوده بهذه المعلومات وهذا مانسميه في الـ Machine Learning عنونة (Label) يربط الحاسب من خلالها بين البيانات والـ class ، هناك كذلك مايُعرف بتحليل البيانات الضخمة (Big Data Analytics) ، هذه التقنية تهتم بجمع البيانات وإكتشاف الأنماط (Patterns) ، كل منا له سلوك معين ، قام صخر بتغطية وجهه تفادياً للتعرف عليه من خلال تصنيف الصور باستخدام (Deep Learning) ، هذه التقنية يستخدمها سند للتعرف على المستخدمين من خلال إلتقاط صورهم ومن ثم التعرف عليها باستخدام خوارزميات التعلم العميق ، عندما فشل سند في التعرف على صخر من خلال الصورة التي التقطها له وهو ملثم ، إستند إلى مصدر آخر وهو كمية البيانات الهائلة التي جمعها عن العائلة اثناء استخدامهم له ، وتعرف على صخر من خلال سرعة كتابته على لوحة المفاتيح ، والكلمات التي يستخدمها والمواقع التي يزورها ، كل هذه الأشياء جعلت سند يتعرف على صخر ويغلق أمامه الطريق ، الحال كذلك مع محاولة إختراق الجهاز ومحاولة سرقة البيانات البنكية ، سند يعرفني كثيراً ويعرف متى اتواصل معه ، وماذا اطلب منه ، يربط كل هذه الاشياء بالوقت ، ويتعرف على نمط استخدامي وتواصلي ، ولا أخفيك انه يعرف متى أنام ومتى أستيقظ ، حتى أنه طلب مني في إحدى الليالي الذهاب للنوم بعد أن لاحظ أن عدد الساعات المتبقية على دوامي الصباحي أقل من معدل نومي المعتاد!.

رأيت الدهشة في وجه يوسف ، فقلت له: مارويته لك ياصاحبي غيض من فيض ، ما سوف تشاهده هناك أكبر بكثير مما سمعت ، ستشاهد سيارة تبحث لها عن موقف شاغر، بيوت ذكية موفرة للطاقة ، كل الاشياء هناك تتحدث تتواصل تتفاعل مع ماحولها.

بينما كان يوسف منصت لكل ما أقوله قاطعنا صوت كابتن الطائرة وهو يهنئنا بسلامة الوصول ويعلن التوقيت المحلي لبلد الوصول 2030 ويتمنى لنا قضاء أجمل الأوقات في أرض الواقع نيوم!

Comments

  1. رائع يا دكتور في طرحك ، شكراً لك

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

البيانات الضخمة والتسويق الذكي

البيانات .. هل هي النفط الجديد؟

في عصر البيانات الضخمة .. هل نحن في خطر؟